كتابات وآراء


08 أغسطس, 2022 11:54:00 م

كُتب بواسطة : صبري السعدي - ارشيف الكاتب




قد يعلم الجميع حجم الخطر جراء توقف سير عملية التعليم بعد دعوة نقابة المعلمين لإضراب شامل وتصعيد الاحتجاجات للمطالبة بحقوق المعلم، ولكن لا يعلم إلا قليلون حجم المعاناة والظلم الذي يتعرضون له؛ فدعونا نوضح ذلك في ثلاثة امثلة واقعية.
المثال الأول: كنت قبل ثلاثة أعوام متجها الى مديرية خورمكسر فركبت باص "هايس" وأثناء سيرنا في الطريق البحري وجدت رجلا في العقد الخامس من عمره يجلس بجواري ويضع يده على كتفي ليسألني أين اقرب مكان إلى معسكر جبل حديد، لكي ينزل فيه، فوصفت له المكان الأقرب، وتبين لي من لهجته أنه من أبناء ردفان، وبعد مرور دقيقة يسألني تارة اخرى قائلاً: يا اخي هل سمعت انهم فاتحين التسجيل للعسكرة، فقلت له باستغراب هل انت تريد التسجيل؟ اظن سنك لا يتناسب مع السن المطلوب للعسكرة. صمت لوهلة ونظر إليّ قائلاً: يا ابني بدل ما تخبرني بهذا الكلام اذهب إليهم (يقصد الحكومة) وقُل لهم يصرفوا مستحقات المدرسين، فأخذ النقاش منحى اخر، فنظرت إليه انا وجميع الركاب بدهشة، وقلت هل انت مدرس؟ سمعته يخرج تنهيدة؛ أحسست انها خرجت من جوف صدره، وقال: نعم اعمل في مجال التعليم من قبل 20 عاما وبعد حرب 2015 تغيرت أوضاعنا للأسوأ بينما تحسنت أوضاع آخرين للأفضل، وللأسف الذين أصبحوا قيادات أغلبهم لا يصلحون لذلك.
واستطرد حديثه: تخيلوا يا اخوة قبل الحرب كان عندنا في المدرسة أحد الطلاب من البلاطجة ومثيري الشغب، وكنت اطرده باستمرار من الفصل بسبب سلوكه الفوضوي أثناء الحصة، والآن سمعت أنه قد أصبح قائداً عسكرياً لا احد يستطيع الوصول إليه؛ وأخبروني أقاربه انهم سيتوسطون لي عنده لكي يسجلني ضمن أفراده نظراً لظروفي، ولكني رفضت لأني اعلم أنه لن يقبل، ونزلت إلى عدن ابحث عن تسجيل مع اي جهة أمنية أو عسكرية لكي أؤمن مصدر دخل يوفر القوت لأسرتي.
والله إن حالة هذا المدرس صعبة علينا جميعاً وكل راكب يدلي بما عنده ويتحسر على ما آلت إليه البلاد.
المثال الثاني كان قبل عام وكنت اسير في شارع التسعين وقت العصر فوجدت سيارة (توسان) تقف بجواري واسمع صوتاً ينادي باسمي فالتفت لأجد أحد الأصدقاء والزملاء في مهنة الإعلام يقول لي اركب اركب يا سعدي، فصعدت واقترح عليّ أن نذهب الى ساحل الحسوة للتخزين اذا لم أكن مشغولا، وافقته وذهبنا إلى هناك، وأثناء ما كنا في الساحل، وجدنا اثنين من طلابه القدامى الذين قام بتدريسهم في احدى مدارس منطقة رصد بيافع والقوا علينا السلام وصعدوا بالمقعد الخلفي، وسمعتهم يتذكرون ايام الدراسة، فقلت لصديقي هل كنت مدرسا، فابتسم وقال نعم ظللت 12 عاماً في التدريس ولم استطع شراء حمار اجلب عليه الماء، وحينما اتجهت إلى الإعلام وبحثت عن مصادر رزق أخرى تحسنت ظروفي ولله الحمد. فتعجبت أشد العجب..! ويعاود حديثه وهو يضحك وقال: راتب المدرس في اليابان اكبر من راتب الوزير في بلادنا وراتب المدرس لا يكفي لشراء كيس ارز درجة ثالثة؛ وأطلق ضحكة على هذا الحال وضحكنا جميعاً معه، وشر البلية ما يضحك.
المثال الثالث: أحد المدرسين في محافظة أبين ظل يعمل كمعلم ومربي لفصل دراسي في احدى مدارس الثانوية العامة في قرى مديرية مودية؛ يخبرني انه في بداية العام 2018 أتى إليه طالب من الصف الأول الثانوي يستأذن منه لأخذ إجازة لمدة ثلاثة أيام، فقال له: لماذا تريد اجازة؟ أخبره الطالب أنه سوف يسافر إلى عدن ليستلم راتب الجيش، فوافق وأعطاه إجازة وسافر الطالب وعاد.
وبعد مرور أسبوعين كان المدرس جالساً في غرفة المدرسين يرفع كشف الغياب والحضور مع مجموعة من زملائه، وتفاجأ بقدوم الطالب إليه مرةً أخرى، يقول له: يا استاذ اريد إجازة ليوم واحد فقط، فسأله المدرس عن السبب، قال الطالب إنه يريد الذهاب لاستلام الراتب!.
عقد المدرس جبينه متعجباً وسأله: ألم تسافر لاستلام راتبك في الاسبوع الماضي؟ فقال الطالب: يا أستاذ الاسبوع الاول سافرت إلى عدن لاستلم راتب الشرعية، الان اريد اذهب مودية استلم راتب الحزام الأمني.
عقد المدرس ما بين حاجبيه ونظر إلى الطالب باستغراب وقال له: ما شاء الله، انت طالب وتستلم 60 الف ريال من الشرعية و1000 ريال سعودي من الحزام؛ وانا مدرس صار لي 10 أعوام والحكومة تعطيني 42 الف ريال فقط ومع هذا يتأخرون بصرفه لنا بدون اي استحقاقات أخرى!. اسمع يا ابني اسمع، المفروض انا الذي استأذن منك وليس انت الذي تستأذن مني، وانفجر ضاحكاً من حال المعلم، وتفجرت جراحه الغائرة غيض من فيض حالة المعلم البائس الذي وصل إليه المعلم الذي أكرمه امير الشعراء أحمد شوقي في ابلغ ابياته "قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا ·. كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا"