28 يوليو, 2025 04:29:08 م
بون (صوت الشعب) المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ECCI ـ وحدة الدراسات (3)
شهدت أوروبا تحولًا في مفهوم الأمن القومي، مدفوعًا بتداعيات حرب أوكرانيا وتراجع الاعتماد على الولايات المتحدة. طرحت المفوضية الأوروبية استراتيجية جديدة لتعزيز القدرات الدفاعية، ودعم الصناعات العسكرية، وتحقيق السيادة الاستراتيجية. تسعى الدول الأوروبية لتقليل الاعتماد على حلف شمال الأطلسي عبر مبادرات ثنائية دفاعية مشتركة، واستثمارات صناعية وتقنية واسعة، في ظل تنامي التهديدات الهجينة والضغوط الجيوسياسية.
تحول جذري في مفهوم الأمن القومي الأوروبي
قدمت المفوضية الأوروبية مفهومًا جديدًا للأمن القومي في أبريل 2025 عبر استراتيجية “حماية الاتحاد الأوروبي”، التي تهدف إلى تعزيز قدراته الدفاعية وسد فجوات القدرات، ودعم صناعة الدفاع الأوروبية، وتعميق سوق الدفاع الموحد، وتعزيز جاهزية أوروبا لمواجهة أسوأ السيناريوهات. طالبت المفوضية الأوروبية دعم دول الاتحاد الأوروبي في ضمان أمن مواطنيها، ومواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة والتهديدات الهجينة، كالإرهاب، والجريمة المنظمة، والجرائم الإلكترونية، والهجمات على البنى التحتية الحيوية.
حددت الاستراتيجية خطة عمل ذات إطار قانوني، من خلال تبادل المعلومات وتعاون دفاعي أوثق، واعتماد أدوات أكثر فعالية لإنفاذ القانون، وتعزيز وكالات العدالة والشؤون الداخلية، وتفعيل دور الاتحاد الأوروبي كلاعب عالمي قوي في مجال الأمن. بالإضافة إلى اعتماد نهج شامل يشمل المجتمع بأكمله، بما في ذلك المواطنين، والشركات، والباحثين، والمجتمع المدني، الذين يمكنهم المساهمة في تعزيز السلامة للجميع.
الرد الأوروبي على حرب أوكرانيا، أمن استباقي ودفاع مشترك
اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوات لحماية مواطنيه وتعزيز قدراته الدفاعية في ظل التحولات الجيوسياسية في حرب أوكرانيا. يرى الاتحاد الأوروبي أن الاستعداد هو الأساس، من خلال ضمان قدرة صناعة الدفاع الأوروبية على الإنتاج بالسرعة والحجم المطلوبين، وتسهيل النشر السريع للقوات والأصول العسكرية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي. يضمن ذلك الأمن على المدى الطويل، وفوائد اقتصادية لجميع دول الاتحاد الأوروبي، ويساعد على الاستجابة للحاجة الملحة لدعم أوكرانيا على المدى القصير.
يقول “لويجي سكاتسيري” من مركز الإصلاح الأوروبي: “يتعين على الأوروبيين تكثيف دفاعاتهم سواء غادر الأميركيون أم لا”. وأضاف “سكاتسيري”: “من أجل توليد ردع موثوق، نحتاج إلى المزيد من القدرات، وخاصة تلك التي نعتمد عليها بشكل أكبر في الولايات المتحدة الصواريخ بعيدة المدى، والدفاعات الجوية، والإمدادات الجوية، والمراقبة الجوية والنقل”. وتابع: “إن توحيد جهود الدفاع الأوروبية من خلال شراء الأسلحة الجماعية، والتسليح المشترك، والخدمات اللوجستية الموحدة، والوحدات العسكرية المتكاملة أمر مهم، لكنه لن يكون كافيا بدون تلك القدرات والأعداد”. أمن أوروبا ـ كيف تنسق الدول الأوروبية الدعم العسكري لأوكرانيا؟
الصناعات العسكرية عنصر من عناصر الأمن القومي
حذّرت صناعة الدفاع والأمن والفضاء في الاتحاد الأوروبي في يوليو 2025، من أن مبلغ (13) مليار يورو المخصص للأمن والدفاع في الميزانية الحالية طويلة الأجل للاتحاد الأوروبي (2021–2027)، غير كافٍ فيما يتعلق بحماية أوروبا من التهديدات. فعلى الرغم من الزيادات الأخيرة، فإن معدل الاستثمار والمشتريات الدفاعية الحالي في أوروبا غير كافٍ لمعالجة الطوارئ العسكرية الأكثر خطورة.
أكدت صناعة الدفاع والأمن والفضاء في الاتحاد الأوروبي أن الإطار المالي المتعدد السنوات المقبل يجب أن يتضمن مظاريف استثمارية مخصصة “تتناسب مع حجم الطموح وإلحاح التحدي”. يقول قادة الصناعة العسكرية الأوروبية إن هذا يعني تخصيص حوالي (150) مليار يورو للدفاع والأمن غير العسكري على مدى دورة الميزانية المقبلة الممتدة لسبع سنوات، بدءًا من عام 2028.
دعت الصناعة الأوروبية صانعي السياسات في الاتحاد الأوروبي إلى تخصيص ما بين (60-40) مليار يورو إضافية للمشاريع المتعلقة بالفضاء، وحوالي (23.5) مليار يورو للطيران المدني. وإلا، فإن النقص المزمن في الاستثمار في الفضاء والدفاع والأمن قد يؤدي إلى إضعاف القدرات، وتأخير التحولات الحرجة، وزيادة التبعيات.
الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي: دفاع موحد في وجه التحديات الجيوسياسية
الاستقلال الاستراتيجي في الدفاع: أصبح سعي أوروبا نحو الاستقلال الاستراتيجي أكثر وضوحا في قطاع الدفاع، حيث تفاقمت التوترات مع واشنطن. أعلنت دول أعضاء رئيسية في الاتحاد الأوروبي، مثل فرنسا وألمانيا وبولندا، عن خطط استثمارية عسكرية جديدة، وتُقلّص الشركات تدريجيا تعاونها مع شركاء الولايات المتحدة مُفضّلة الإنتاج المحلي. تُعطي “الاستراتيجية الصناعية الدفاعية الأوروبية” للاتحاد الأوروبي الأولوية للأنظمة المُطوّرة محليا والتكامل الدفاعي العابر للحدود.
الاستقلال الاستراتيجي النووي: تهدف مبادرات مثل مبادرة التعاون الهيكلي الدائم (PESCO) إلى بناء إطار عسكري أوروبي مُنسّق، في حين تكتسب المناقشات حول رادع نووي مستقل بقيادة فرنسا زخمًا. تعكس هذه الخطوات مجتمعةً إعادة تقييم استراتيجي ليس التخلي عن حلف شمال الأطلسي، بل الاستعداد لأوروبا أقل اعتمادًا عليه.
الاستقلال الاستراتيجي الفضائي: تدرس بروكسل بناء شبكة أقمار صناعية جديدة لتوفير المعلومات العسكرية، يهدف النظام إلى استبدال القدرات الأمريكية جزئيًا، بعد أن أبرز توقف الرئيس “دونالد ترامب” عن تبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا في مارس 2025 اعتماد أوروبا على أمريكا. أمن أوروبا ـ كيف تستعد أوروبا للحرب العالمية الثالثة؟
يقول “أندريوس كوبيليوس” مفوض الدفاع والفضاء: “نظرًا للتغيرات في الوضع الجيوسياسي، تدرس المفوضية الأوروبية توسيع قدراتها عبر الأقمار الصناعية لتحسين دعم الاستخبارات الجغرافية المكانية للأمن”. تُستخدم شبكة الأقمار الصناعية الجديدة للكشف عن التهديدات مثل حركة القوات وتنسيق العمل العسكري.
الاستقلال الاستراتيجي في الصناعة الدفاعية: تسعى المفوضية الأوروبية إلى إنشاء صندوق ضخم للسياسة الصناعية من خلال دمج ما يصل إلى (14) خط ميزانية موجودًا في خطة الإنفاق المالي متعددة السنوات القادمة. سيكون للصندوق “تفضيل الاتحاد الأوروبي” لتعزيز الاستقلالية في القطاعات الاستراتيجية، بما في ذلك “النطاق الكامل للقطاع الرقمي”، والتكنولوجيا النظيفة، والدفاع، والأمن، والفضاء، والتكنولوجيا الحيوية.
الاستقلال الاستراتيجي في الطاقة: تسعى الدول الأوروبية إلى الاستقلال الاستراتيجي في مجال الطاقة و تنويع مصادره، فبدأت بروكسل في إعادة النظر في أمن شراكاتها في مجال الطاقة على المدى الطويل، لا سيما بعد حرب أوكرانيا، وتزايد تأثير صادرات الطاقة الأمريكية على النفوذ السياسي. قلصت الدول الأوروبية من اعتمادها على الوقود الأحفوري الروسي، وعملت على توسيع تعاونها في مجال الطاقة خارج إطار المحور الأطلسي، معززة علاقاته مع منتجين مثل النرويج والجزائر وقطر.
هل تتهيأ أوروبا لفك ارتباطها الدفاعي عن الناتو؟
يدعم العديد من الدول الأوروبية “تحالف الراغبين” الناشئ، بقيادة فرنسا وبريطانيا، من أجل دعم قوة عسكرية وضمان اتفاق ما بعد الصراع في أوكرانيا. وفي إطار تحديد الموارد لهذه القوة بما في ذلك القدرات اللوجستية والاستخباراتية، بالإضافة إلى القوات الجوية والبرية والبحرية يهدف ذلك إلى تقليل الاعتماد على الناتو والتصدي لتهديدات ترامب بالانسحاب من أوروبا، وملء الفراغ بأصول أوروبية على مدى عقد من الزمن.
يقول “هنك أوفربيك” أستاذ العلاقات الدولية في جامعة فريجي بأمستردام: “تمتلك أوروبا الموارد الاقتصادية والمالية والتكنولوجية اللازمة لإنشاء نظام دفاعي خاص بها. ومع ذلك، لكي تتخلص أوروبا بفعالية من اعتمادها الحالي على الناتو في الدفاع، لا بد من وجود إجماع سياسي واسع بين الحكومات والنخب السياسية وعامة الشعب، وهو إجماع لم يتحقق بعد”.
أضاف “أوفربيك”: “إذا استطاعت حكومات المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وبولندا طرح مقترحات ملموسة وفعالة ومقبولة، فقد يتغير المناخ الاستراتيجي في أوروبا بسرعة كبيرة. يجب أن يقترن تنظيم الدفاع الذاتي الأوروبي بشكل صحيح بمبادرات دبلوماسية تهدف إلى التعايش السلمي في أوروبا والسعي إلى تعاون سلمي مع قوى أخرى مثل الصين والهند”.
الرؤية الفرنسية الألمانية لتقوية الصناعات العسكرية
انكشفت الانقسامات في مجال الدفاع خلال يوليو 2025، عندما أيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مبادرة ألمانية لتوريد الأوروبيين أسلحة أمريكية الصنع إلى أوكرانيا. وبينما أيدت دول الشمال الأوروبي والمملكة المتحدة الخطة، عارضتها فرنسا تماشيًا مع سعي ماكرون لزيادة إنتاج أوروبا للأسلحة محليًا وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة.
تُهدد الخلافات بين فرنسا وألمانيا بعرقلة مشروع أوروبي لتطوير طائرة مقاتلة من الجيل التالي، مما يُقلل من اعتماد الاتحاد الأوروبي على طائرات “إف-35” الأمريكية. وقد قلل مسؤول في الإليزيه من شأن الخلافات حول برنامج الطائرات المقاتلة، قائلاً: “إن ميرز وماكرون يرغبان في المضي قدمًا”.
يقول “ثيس” النائب في البرلمان الألماني: “إن الطريقة الوحيدة لسد هذه الخلافات هي أن يقترب الألمان من الفرنسيين في مجال الدفاع، وأن تقترب فرنسا من ألمانيا في مجال التجارة. وراء كل جهد فرنسي لتعزيز الطابع الأوروبي لتسليحنا، ترى ألمانيا دائمًا مميزات تُمكّن الفرنسيين من تحقيق مصالحهم الخاصة، وخاصةً فيما يتعلق بصناعة الأسلحة. علينا أن نتجاوز ذلك”.
كيف استفادت أوروبا من حرب أوكرانيا على صعيد الإمدادات العسكرية؟
كشفت حرب أوكرانيا لأوروبا الحاجة إلى قاعدة صناعية وتكنولوجية أوسع، وأكثر مرونة وتفاعلية. وهذه في الواقع، تُعد لبنة أساسية في بناء الدفاع الأوروبي، بالإضافة إلى زيادة جاهزية الجيوش الأوروبية، وإنتاج أسلحة قابلة للتشغيل المتبادل في إطار حلف شمال الأطلسي. كما أوضحت حرب أوكرانيا منذ بدايتها في فبراير 2022 الحاجة إلى المزيد من الابتكار في الصناعات الدفاعية، والقدرات، والإمدادات العسكرية. أمن دولي ـ مفاوضات روسيا وأوكرانيا، الفرص والعقبات
تقييم وقراءة مستقبلية
ـ يُظهر تطور مفهوم الأمن القومي الأوروبي تحوّلاً من التركيز التقليدي على الردع العسكري إلى رؤية أكثر شمولًا ومؤسسية، تجمع بين القدرات الدفاعية، والاستقلال الاستراتيجي، والتعاون عبر القطاعات.
ـ تتبنّى أوروبا مقاربة متعددة الأبعاد، تسعى من خلالها إلى بناء منظومة أمنية مستقلة، قابلة للاستمرار بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة أو حلف الناتو.
ـ تؤشر المبادرات الدفاعية والصناعية والعسكرية، كذلك تعزيز التعاون الاستخباراتي والتقني، مع إدماج أوسع للمجتمع المدني والقطاع الخاص في دعم منظومة الأمن. إلى تبلور وعي أوروبي بأهمية السيادة الدفاعية والاستقلال الاستراتيجي.
ـ تعيق الصراعات السياسية، والانقسامات بين الدول الكبرى كفرنسا وألمانيا، ومحدودية الاستثمارات، تحقيق إجماع أوروبي شامل حول الأمن الجماعي. كما يصطدم الطموح في بناء قدرة ردع ذاتية مستقلة عن الناتو، بواقع القدرات العسكرية غير المتكافئة، وغياب مظلة نووية أوروبية موحدة.
ـ يمكن القول أن مستقبل مسار الأمن الأوروبي سيتحدد بمدى قدرة الاتحاد على تحويل التحديات الراهنة إلى فرص استراتيجية، تحقق التوازن بين الشراكة عبر الأطلسي، والاستقلالية الدفاعية في إدارة الأمن القومي.
رابط مختصر.. https://www.europarabct.com/?p=106559
*حقوق النشر محفوظة إلى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
هوامش
‘Show me the money’: EU’s defence industry wants at least €100 billion after 2027
https://tinyurl.com/2nvr56sr
Acting on defence to protect Europeans
https://tinyurl.com/4vdcpjnd
Nato faces a make-or-break decision about how to protect Europe and its future in next few weeks
https://tinyurl.com/2cz7pwf9
Merz and Macron vowed to restart the Franco-German engine. It’s already sputtering.
https://tinyurl.com/mttajwfm