04 مايو, 2025 06:22:14 م
كتب/ راشد معروف:
في ظل التوتر الإقليمي المتصاعد وتعدد مسارات الاشتباك غير المباشر بين إيران وإسرائيل، جاءت الضربة الخوثية الأخيرة التي استهدفت محيط مطار بن غوريون لتضيف حلقة جديدة إلى سلسلة من الرسائل الصاروخية ذات الدلالة العميقة، والتي لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق العام للصراع، أو تقييمها من خلال منظور تقني سطحي.
يروَّج في بعض الأوساط الإعلامية أن الصاروخ الذي أُطلق من اليمن لم يُصِب صالة المطار بشكل مباشر، بل سقط في منطقة مفتوحة قريبة، ما دفع البعض للقول إن الضربة كانت عشوائية أو غير دقيقة. غير أن هذا الطرح يتجاهل عن عمد جملة من الحقائق الاستراتيجية التي تُشكّل جوهر المسألة. فهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها استهداف هذا الموقع تحديداً؛ فقد سبق للخوثيين أن قصفوا ذات المنطقة في 3 أبريل 2024، أي بعد يومين فقط من الغارة الجوية الإسرlئيلية التي دمرت مبنى القنصلية الإيرانية في حي المزة بدمشق في الأول من أبريل 2024، والتي أودت بحياة قيادات بارزة في lلخرس lلثوري، من بينهم الجنرال محمد رضا زاهدي.
تكرار الضربة في ذات الموقع خلال فاصل زمني مدروس، يُسقط مزاعم "الخطأ في التصويب". فالجماعة الخوثية، وهي ذراع إيراني، تمتلك اليوم منظومات صاروخية متطورة تُصنّف ضمن فئة الأسلحة الدقيقة، والتي أثبتت فعاليتها في ضرب أهداف متحركة في عرض البحر، بما فيها ناقلات نفط وسفن تجارية ضمن الممرات البحرية الدولية.
وإذا ما استطاع الحوثيون إصابة أهداف متحركة في وسط البحر بدقة، فمن غير المنطقي الزعم بأنهم عجزوا عن إصابة صالة ثابتة في منشأة بحجم مطار بن غوريون. بل إن تجنّب الضربة المباشرة للصالات المكتظة بالمدنيين، ليس مؤشراً على الفشل، بل دليل على إدراك واعٍ لقواعد الاشتباك ومحدودية التصعيد. فقتل عدد كبير من المدنيين، خصوصاً من جنسيات غربية، كان سيؤدي إلى تدخل دولي مباشر، يُحرج إيران قبل الخوثيين، ويمنح إسرlئيل تفويضاً أوسع لتوسيع نطاق الرد وربما استهداف العمق الإيراني ذاته.
الهجوم، إذن، جاء لتحقيق أهداف مركّبة: عسكرية، عبر إثبات القدرة على الوصول إلى عمق الكيان الإسرlئيلي؛ اقتصادية، بإرباك حركة الملاحة الجوية في أحد أكثر المطارات حساسية؛ وسياسية، عبر توجيه رسالة مضادة تُعيد ضبط التوازن بعد ضربة بندر عباس الغامضة التي وقعت في 29 أبريل 2025، والتي تشير أغلب التقديرات الاستخباراتية إلى أنها كانت عملية تخريبية نفذتها إسرlئيل ضد منشأة بحرية إيرانية تُستخدم في النقل اللوجستي والعسكري.
وفي قراءة معمقة لسلوك الخوثيين، يُلاحظ أنهم لا يتحركون فرادى، بل في تناغم مع محور إقليمي ينسّق الردود وفقًا للضربات التي يتلقاها أحد أطرافه. فعقب استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق في أبريل 2024، لم يتأخر الرد الخوثي سوى 48 ساعة، وجاء على شكل ضربة صاروخية طالت محيط مطار بن غوريون. اليوم، يعيد الخوثيون تكرار الضربة ذاتها، وفي نفس الموقع تقريباً، عقب تفجير بندر عباس. هذا التسلسل الزمني يُظهِر نمطاً ثابتاً في الردّ الإيراني عبر وكلائه الإقليميين.
ولذلك، من العبث تقزيم ما حدث إلى مجرد "خطأ تصويب". بل يجب أن نفهم أن هذه الضربات باتت جزءاً من هندسة الاشتباك الجديدة في المنطقة، حيث تُرسم الخطوط الحمراء بدقة، وتُرسل الرسائل بالنار ولكن دون تجاوز حدود الانفجار الشامل. فالكل يعرف أن إطلاق رصاصة واحدة خارج المساحة المسموح بها، قد يُشعل حرباً إقليمية لا تريدها لا طهران ولا تل أبيب في هذا التوقيت.
من هنا، فإن قراءة الأحداث بواقعية وعين محلل محترف تقتضي أن نبتعد عن التفسيرات السطحية، ونفهم أن "الخطأ الظاهري" قد يكون في جوهره "دقة تكتيكية". الصواريخ لم تُطلق لتُخطئ، بل لتُوجّه رسالة: نحن حاضرون في ساحة الاشتباك، لكننا نتحكم في درجة النار.