كتابات وآراء


13 أغسطس, 2022 01:06:00 ص

كُتب بواسطة : د/مجيب الرحمن الوصابي - ارشيف الكاتب






قليل الكلام والتبسم.. صوته لا تكاد تسمعه؛ ربما لضجيج القاهرة. لا أدري!. لكنه يزأر فيما يكتبه وتسمع الدنيا منه أصوات المكلومين المسحوقين؛ ترتعد بحرفه فرائص الطغاة الجبارين والمتسلطين. في عينيه حزن عميق، وهم كبير. في عينيه يسكن (الوطن)!.
حتى المختلفون معه، يقرون له بالفضل والتميز.

منذ أكثر من عام التقيته أكثر من مرة في قاهرة المعز. سألني: إلى أين يا دكتور مجيب؟
- بلاد الله واسعة. ذلك الضابط (المصروع) سحب عني هويتي، وشكك فيها!.

(أنا عائد للوطن)، أردف بالقول، وكأنه يتوقع السؤال مني!.
- أنت في خطر يا فتحي!
الخطر ليس من الآن، إنه منذ (....) سنوات.
- لماذا الهروب؟ لماذا يا فتحي بن لزرق العودة؟
- متيقن انني سأدفع حياتي ثمنا لكلمة الحق ووجع الناس في وطني وآهاتهم.
- بالإمكان أن تستقر في القاهرة، أو أي مكان آخر غير اليمن (قلت ناصحا)
- أستطيع... لكنني أريد بلادي (قال)!.
أي مغامر هذا يسعى لحتفه (تمتمت في نفسي؛ يمكنه العيش منعما مكرما مستمتعا آمنا في غير الوطن).
(أنا عائد للوطن)!
مقتول أنت فيه!... لا شك في ذلك يا فتحي!.
قال لي بصوته الخافت: أنا أعلم انني سأموت.. لكن إذا اتخذ القرار!.
أربكني كلامه الواثق، فسألته: من يتخذ القرار؟
ابتسم محاولا رفع الغم عني وخوفي عليه.. مشيرا إلى السماء: هذا القرار الذي لا مفر منه!.

قلت في نفسي: هذا المغامر بحياته لا يستطيع أن يكتب إلا وسط الناس، قريبا منهم، يتنفس أوجاعهم؛ ولأننا نقيس (الحقيقة) بمقدار ما يكابده الكاتب ويعانيه وبقربه من حياة الناس؛ لذا ليس عندي شك في أن (بن لزرق) الكاتب الصحفي الأول في اليمن اليوم؛ وبلغة الأرقام.
ما يكتبه فتحي يطير في الآفاق؛ وفي الأحيان يشكل ما يطرحه من قضايا إنسانية (رأيا عاما) ربما أربك كثيرا من الجهات والسلطات، وهنا (الخطر). والإجابة (لماذا فتحي بن لزرق) مستهدف؟!.
يستخدم بن لزرق سلاح الكتابة ضد اعتداءات الحياة على الناس، بينما آثرنا نحن الصمت المخزي المهين!.

فلسفة فتحي بن لزرق من خلال استقرائي لما يكتب هي بسيطة (أعطونا خبزا وأمنا) وليحكمنا ويتحكم بنا من يشاء! في دولة أو دولتين أو حتى عشر، أليس هذا منتهى طموحنا وغاية آمال الناس؟!.
أليس هذا صوت أغلب الشعب اليمني شماله وجنوبه، الذي يعيش أتعس أيام حياته تاريخيا بكرامة مهدورة، ويبيع أطفاله؟!.
كل الناس وفتحي يحنون (لعفاش) رحمة الله تغشاه؛ من منا لا يحن إلى ذلك العهد القريب؟! عهد الأمن والخبز والدولة؛ ولا ينسى فتحي (تعز) وأهلها الذين أجاروه وهو طفل وأهله من بطش الرفاق.

في المدرجات بين طلاب الإعلام أسأل: من أبرز الكتاب الصحفيين اليمنيين الذين تتمنون أن تكونوا مثله، ولماذا؟! الأغلبية تبدي انبهارها بـ(فتحي بن لزرق). بعض المخضرمين يرون بحماس أنه استاذ الأجيال (نجيب يابلي) رحمة الله تغشاه، وتحضر بعض الأسماء المتفرقة الأخرى.
الحق يقال إن فتحي بن لزرق هو امتداد لمدرسة (اليابلي) الصحفية فكل منهما يشترك في الأسس والمنطلقات (هموم الناس ومعاناتهم). وإن كان (اليابلي) رحمه الله، يضيف إلى ما يكتبه قيمة توثيقية علمية تاريخية مهمة.. يتميز (فتحي بن لزرق) وهو (العصامي) باقترابه من الفن والأدب، (الإعلامي الأديب) وبحضوره القوي في وسائل التواصل الاجتماعي والنكتة السياسية اللاذعة.

فتحي يبدع في فن الحكاية/القصة (الرمزية)، لا أعرف أحدا استخدم هذا الأسلوب وواظب عليه باحتراف ومهنية غير الأستاذ (علوي عبدالله طاهر) (المهمل) الذي كان يدبج الخطابات للرئيس (علي ناصر محمد) في الثمانينات؛ كتب علوي طاهر قصصا من هذا النوع في صحيفة (14 أكتوبر)؛ لكنها لم تلق الرواج، وكان له شرف الريادة دون أن يزعج السلطات آنذاك, وكأني بعلوي طاهر- رحمة الله عليه- يسجل موقفا ساخرا مما يدور بين الرفاق وهو قريب منهم ومن كواليسهم.

الكتابة القصصية في مثل هذا النوع من الحكايات من أصعب أنواع الكتابات لأن المؤلف يدمج قصتين في قصة واحدة وهنا تكمن براعة (فتحي بن لزرق) في استخدام التوليفة بين ظاهر النص وباطنه (دلالاته)، ربما يسعفنا الوقت في قادم الأيام لتقديم قراءة في حكايات بن لزرق الرمزية وآخرها (إلا البرقع يا حسن) وغيرها من القصص الرمزية اللاذعة.
لكني، وعودا على بدء، أخشى على هذا الرجل (المغامر)، وأحمل الجميع المسئولية عن حياته وتأمينها وحياة كل الإعلاميين، وأوجه المناشدة لهيئة مجلس الرئاسة بقيادة الدكتور رشاد العليمي، ففتحي وكل الإعلاميين في خطر!.

(من وحي مشهد توديع فتحي بن لزرق لابنه الصغير، وهو مشهد محزن يختزل حال كل الإعلاميين والمناضلين بالكلمة)

* أستاذ الأدب والحضارة في جامعة عدن والجامعة اللبنانية الدولية