ملفـات وتقـاريـر

06 أغسطس, 2025 02:41:30 ص

(صوت الشعب) كتبه| عبدالكريم قاسم:

في الفكر الاقتصادي الكلاسيكي، شكّلت مقولة "دعه يمر، دعه يعمل" حجر الزاوية لميلاد الرأسمالية الحديثة.

جاءت العبارة لتلخص مطلبًا جوهريًا: تحرير النشاط الاقتصادي من تدخل الدولة، وترك السوق يعمل بحرية وفق آلياته الذاتية.

نادى بهذه الرؤية مفكرو القرن الثامن عشر، من أبرزهم آدم سميث، الذي رأى أن الفرد حين يسعى لمصلحته الخاصة فإنه، بطريقة غير مقصودة، يحقق المصلحة العامة.

وبهذا، أُسندت إلى السوق وظيفة التوازن والتنظيم، بينما اقتصر دور الدولة على الأمن، القضاء، والبنية التحتية.

إلا أن الكساد الكبير عام 1929 شكّل نقطة فاصلة في مصير هذا الشعار، حين فشلت السوق الحرة في تصحيح نفسها، وانهارت المؤسسات المالية، وتفشّت البطالة والفقر.

هنا ظهر جون ماينارد كينز ليعيد تعريف العلاقة بين الدولة والسوق، مؤسسًا لاقتصاد تدخلّي يرى في الإنفاق الحكومي أداة ضرورية لتحفيز الطلب وتثبيت الاستقرار.

منذ ذلك الحين، تباينت تطبيقات الرأسمالية:

الرأسمالية الكينزية دعمت دور الدولة كموازن وضامن.

ثم جاءت النيوليبرالية في السبعينيات، لتعيد الاعتبار لشعار "دعه يمر"، ولكن ضمن سياق معولم، وخصخصة واسعة، وتحرير للتجارة، تحت شعارات الحدّ من دور الدولة وتعزيز المنافسة.
في السياق العربي:

دخلت الدول العربية عصر "دعه يمر" تحت وطأة الديون، وضغوط المؤسسات المالية الدولية، لا عبر اقتناع فكري أو بنية اقتصادية مؤهلة.

فتم تبني برامج "الإصلاح الاقتصادي" و"التحرير" و"الخصخصة"، دون إصلاح قضائي، أو ضبط للفساد، أو حماية للطبقات الهشة.

ما حدث فعليًا لم يكن سوقًا حرة، بل سوقًا محكومة بشبكات النفوذ والاحتكار، استفاد منها المقربون من السلطة، بينما أُلقي بالمواطن العادي في دوامة البطالة وغلاء المعيشة.
واليمن نموذجًا:

في اليمن، جاءت تجربة "دعه يمر" متأخرة ومربكة.

في الجنوب، ساد النموذج الاشتراكي الصارم حتى 1990.

في الشمال، لم يكن هناك اقتصاد سوق حقيقي، بل اقتصاد تقليدي قبلي، يقوم على التجارة البسيطة والتحويلات والمساعدات.

ومع تحقيق الوحدة، وبدء "الإصلاحات الاقتصادية"، تم تحرير الأسعار، وخصخصة المؤسسات، ورفع الدعم، تحت شعار "التحول إلى اقتصاد السوق".

لكن الدولة لم تنسحب لصالح التنافس الحر، بل لصالح النافذين، وتحوّل السوق إلى مساحة للفساد والاحتكار.

أما بعد الحرب، فقد انهارت الدولة والمؤسسات، وانهارت معها أي إمكانية لنشوء سوق حرة حقيقية. بات الاقتصاد مُجزأ بين سلطات أمر واقع، تفرض الإتاوات وتتحكم في المعابر والتجارة، بعيدًا عن أي قاعدة قانونية أو تنظيمية.

إن مقولة "دعه يمر" لا تصلح أن تكون سياسة اقتصادية مجردة، بل ينبغي أن تترافق مع مؤسسات حامية، وقضاء مستقل، وقوانين عادلة، وضمانات اجتماعية.

وإلا فإن السوق يتحوّل من مساحة للحرية، إلى بيئة خصبة للفوضى، والفساد، وتكريس الفجوة بين طبقة تتحكم وطبقات تُسحق.

في عالمنا العربي، واليمن تحديدًا، لم يكن الفشل في "دعه يمر" بسبب الشعار نفسه، بل بسبب نقله دون بيئته، وتطبيقه دون أدواته.




رأيكم يهــمنا

تهمّنا آراؤكم لذا نتمنى على القرّاء التقيّد بقواعد التعليقات التالية :
أن يكون للتعليق صلة مباشرة بمضمون المقال.
أن يقدّم فكرة جديدة أو رأياً جدّياً ويفتح باباً للنقاش البنّاء.
أن لا يتضمن قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم.
أن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.
لا يسمح بتضمين التعليق أية دعاية تجارية.